ظلت العمارة في المجتمعات العربية لمدة طويلة تعاني أزمة الهوية وتداعياتها وتدور في فلك ثنائية الأصالة والمعاصرة في ظاهرها الشكلي لمدة طويلة من الزمن ، ولكن التعاطي مع الهوية من منظور متعدد التخصصات الذي يجعل المرء قادراً على تصور هذه الإشكالية بشكل اكثر شمولية تأخر كثيراً و لا يمكننا القاء اللوم على المختصين بالعمارة والعمران في العالم العربي فحتى الدول التي يتم فيها الإنتاج الحقيقي للأفكار والرؤى العمرانية المعاصرة كالدول المتقدمة لازالت هذه القضية تلوح في الأفق في عدد من جامعتها و مؤتمراتها المهمة.
ربما يكون هذا العدد في طرحه المتنوع يحاول ألا يكرر التساؤل المفتوح وانما تقديم حلول ربما تساعد في فهم والتعامل مع هذه القضية بخطوات اكثر عملية و رؤية واضحة، اللقاء مع الرئيس التنفيذي لهيئة فنون العمارة والتصميم د. سمية السليمان واعتقد للمرة الأولى كلقاء نصي (مكتوب) يتم فيه الشرح عن ميثاق الملك سلمان العمراني كمنهجية استراتيجية نحو التميز في العمارة والعمران متكأين فيه على نتاج تجارب عمرانية مهمة وجوهرية شكلت صورة الرياض الحديثة بدعم و إشراف من الملك سلمان حفظه الله إبان إمارته لمدينة الرياض آنذاك، ولا يقتصر الامر في الميثاق على الأصالة و الاستمرارية و الاعتزاز بالهوية بالانغلاق عليها وإنما تحسين جودة الحياة و ووضع الانسان محور المعادلة في العمران الحديث، و كذلك التطلع للمستقبل بالتعامل مع تحدياته التقنية و النظر في حتمية استدامة العمران في المستقبل.
وفي سردية ممتعة يأخذنا المعماري علي لاري في نقد محكم لقضية زوال الهوية و فقدان بوصلة العمران الأصيل وكأنه روائي يحكي لنا قصة قصيرة عن قضايا ملحة في مدننا المعاصرة، عن سيطرة السيارة على شرايين الحياة بالحي السكني، عن إهمال الانسان في معادلة تصميم الحي السكني، عن النسق البصري العشوائي للمساكن للحديثة، عن تشتت المعماري بين حضور المفاهيم الغربية والاشتراطات المحلية، و إشكالية التعليم المعماري في التعامل مع هذه القضايا. رؤية نقدية مغلفه بصبغة أدبية رفيعة اجاد فيها المعماري لاري حبكة القصة وتسلسل الاحداث والتشويق فيها، ورسم فيها المشهد العمراني في واحدة من مدننا الخليجية والتي أكاد اجزم انها تتشابه مع الكثير من مدننا المعاصرة. هذا المقال يجعلنا نتساءل عن الممارسة التخطيطية في مدننا المعاصرة وهل كانت الهوية والسياق المحلي هي المنطلق الأساس في هذا الشأن، و مقال د. عبدالله ضيف الله يحاول تقصي الأثر المحلي في التخطيط الغربي الذي شكل السواد الأعظم من الممارسة التخطيطية في تلك الحقبة، متكأ على منهجية الفردية والبنيوية في تحليل عمران مدننا المعاصرة، و مؤكداً على أن القراءة العميقة للمشهد من الممكن أن تلقي الضوء على بعض الممارسات الفردية التي شكلت ارهاصات عمران متسق مع السياق المحلي، ومقدماً تصوراً جديداً على أن العمران المحلي لم يكن بالكامل منصهراً في الممارسات الغربية المعولمة وإنما هو نتاج تفاعل بين بنيوية التجارب العالمية و فردية الممارسة المحلية. في ذات السياق يأخذنا المعماري عبد الرحمن المد الله للنهج الفكري والمجتمعي الذي أسهم في تبلور إشكالية الهوية وكيف يمكننا تفكيكيها والتعامل معها من خلال الأدوات المناسبة وبالتالي الوصول لفهم الاحتياج الحقيقي وبالتالي التعبير عنه بشكل يتجاوز الماضي و لكن لا ينفصل عنه وهو يؤكد هنا على قضية “قبول المختلف” المختلف من حيث النوع والصورة النمطية التي تشكل العمران الأصيل المعبر عن الهوية.
ويحفل العدد في قسم الدراسات بدراسة مهمة من د محمد مشاري النعيم، يناقش فيها العناصر المعمارية التقليدية في البيئة النجدية، من خلال دراسة متعمقة لخمس مستوطنات وهي الدرعية، سدوس، والخبراء، وأُشيقر، والرياض القديم. محاولاً تفسير هذه العناصر على ضوء تأثير الثقافة على عملية صناعة الشكل المادي، ومؤكداً على أن جمالية العناصر المعمارية للبيئة التقليدية تنبع من اندماج المظهر المعماري العنصر ووظيفته مع القضايا الثقافية والاجتماعية ويتماشى مع القضايا المحسوسة وذات القيم المهمة للمجتمع.
وكذلك تعطي المجلة المجال لعدد من المساهمات لجيل من الكتاب الجدد سوآءا بتقديم مقالات نقدية لمشاريع قائمة مثل مقال المديفر و القضيبي والذي سعدت بالإشراف عليهم في مادة النقد المعماري بجامعة القصيم، او من خلال مقالات تسائل مكون الهوية من منظور فلسفي أو معرفي مهني كما يطرح م وسيم حلواني و م عبدالعزيز العنزي، أو من خلال تطبيقات لقضايا مباشرة بالهوية من خلال تجربة مختبر المنامة في مقال موسم من البريد تجربة استراتيجية لإعادة تأهيل مبنى ثقافي و تعزيز الحس المكاني لمدينة المنامة التراثية.
د فهد عبدالله العتيبي
تحرير،
هيئة فنون العمارة
استاذ العمارة المساعد، كلية العمارة والتخطيط، جامعة القصيم.
مستشار هيئة فنون العمارة والتصميم، وزارة الثقافة.