١. المقدمة
على الرغم من أن البيئة النجدية المبنية التقليدية مبنية وموجهه لتكون للداخل (introverted) بدلاً من الخارج (extroverted)، فقد تطورت بعض العناصر المعمارية على مدى القرون المتعاقبة لتدعم طبيعة الحياة الحضرية في البيئة النجدية. وعلى الرغم من هجرة الأهالي ديارهم في معظم القرى النجدية التقليدية؛ إلا أنه من الممكن استنباط وفهم العلاقة بين العناصر المعمارية والحياة الحضرية حينئذٍ من خلال فحص ما تبقى من البيئة المبنية القائمة اليوم. قمنا في هذه الورقة بإجراء دراسة متعمقة لخمس قرى نجدية في المملكة العربية السعودية: الدرعية، وسُدُس، والخبراء، وأُشيقر، والرياض القديمة. لا يسعنا التطرق لها بشكل مفصل هنا، ولكن يمكن أن نلخصها في اعتماد الشكل الخارجي للبيئات التقليدية التي تم بناؤها في الغالب نظام المباني المترابطة ضمن نسيج حضري مُدمج. حيث نجِد أن الفتحات الخارجية القليلة تلبي الحاجة الضرورية من المداخل المطلوبة، كذلك الحال بالنسبة للنوافذ الصغيرة في الجزء العلوي من الطابق الثاني. كما برز ضمن الملاحظات العامة للدراسة، أن معظم العناصر المعمارية -إن لم تكن جميعها- تم توظيفها بطريقة تساعد على دعم تراتبية البيئة المبنية، مع القدرة على تعزيز فكرة البيئة المدمجة المتناغمة. وبالتالي، نشأت العناصر المعمارية استجابةً لاحتياجات محلية محددة، ولتوفير مكونات بصرية تميز البيئة المبنية وتشكل هويتها.
لاحظت الدراسة أن القرى التقليدية تظهر ترتيبًا هرميًا للفراغات، وتُعيد ترتيب العناصر المختلفة وفقًا لوظائفها، وبالتالي إيجاد توازن بين الفراغات الخاصة والعامة: المساحات الخاصة بالمباني والفراغات الحضرية العامة [1]. هذا يمكن أن يفسر سبب احتواء بعض الفراغات لعناصر محددة في مناطق معينة ضمن البيئة المبنية، حيث احترمت عملية التغيير النظام المكاني وحافظت على بقائها من خلال الظواهر المجتمعية التي مارسها الأهالي في البيئة المبنية على مدى قرون. أتاح هذا الترتيب الهرمي مرونةً في اتخاذ الإجراءات والقرارات اليومية للأفراد، كجزء من السمات الديناميكية الداخلية للنظام المحلي. كما توصل أموس رابوبورت إلى استنتاج مماثل، حيث استنبط من هذه الفكرة مدى تأثر عملية صناعة القرار الجماعي -على المستويين الكلي والجزئي- على جودة البيئة المبنية وتشكيل هويتها. كما جادل بأن هذا النوع من العمليات ساعد المجتمعات ذات الصلة على توطين بيئة مثالية لكيانهم المتناغم، كبيئة تمثل القِيَم الاجتماعية الثقافية المشتركة من خلال الأشكال المادية والمعاني المشتركة [2].
قبل الشروع في فحص العناصر المعمارية، من الضروري توضيح وشرح المقصود من تأثير الثقافة على عملية صناعة الشكل المادي، لفهم كيفية تفاعل كلاً من القِيَم الاجتماعية والرموز المادية، وإمكانية نقلها من خلال الأشكال والمعاني. وبهذا المعنى، شدّد غريتز على أن فهم الدور الثقافي ضروري وحاسم، وجادَل بأن الثقافة ليست معطَى، والناس لا يولدون معها. ويشير إلى أن الثقافة مجازًا جوهر ما يجعلنا بشرًا ويميزنا، وليست شيئًا آخر. أشار غيرتز أن “من الضروري عدم النظر إلى الثقافة كأنماط من المجتمعات الثابتة، ولكن كمجموعة من آليات التحكم المرنة” [3]. يؤيد دامن هذا، مؤكداً أن “الثقافة هي آلية التكيّف الأساسية للبشرية”، كما ذكر دامن أن “الثقافة هي التواصل، والتواصل ثقافة” [4]. من هذا المنظور، من الممكن رؤية الثقافة كما وصفها اموس رابوبورت: امتلاك قوة عالية تساهم في التحكم في توليد المباني، وامتلاك الثقافة هو ما يؤخذ لتعريف البشر [2, 5-7]. وهذا يعني أنه من أجل فهم كيفية قيام السكان المحليين في البيئة النجدية بالمملكة العربية السعودية بفرض تقاليدهم في هياكلهم العمرانية والبنائية؛ ينبغي أولاً فهم المبادئ الثقافية للمجتمعات المحلية.
كعملية تطورية، قد تساعد أهمية الاستخدام والمعنى في فهم كيفية التفسير المبدئي للبيئة المبنية من منظور ثقافي، وكيف تم إظهار الاستخدام والمعنى من خلال الأشكال المحلية والمادية. بشكل عام، حيث ترتبط المعاني بالرموز التي تشير إلى أن الرمز يجسّد معانٍ قوية تستند للعرف الاجتماعي والثقافة المحلية. في معظم البيئات التقليدية المدمجة، يولّد الناس طرقاً مختلفة ويستخدمون الرموز المكانية والمادية كأدوات اتصال غير لفظية [8].
في هذه الحالة، يمنحنا جيمس دنكن منظوراً واضحاً لكيفية عمل القِوى الاجتماعية والثقافية ضمن إطار يؤثر في خلق البيئات المبنية التقليدية. حيث درَس العلاقة في التركيبة الاجتماعية بين كلاً من الجماعية والفردية ومواقف الناس تجاه معنى المسكن. ووصف التركيبة الاجتماعية الجماعية بأنها تتمتع بمجموعة اجتماعية مغلقة نسبيًا، مما يدل على مستوى عالٍ من التقارب، وتتبنى نظاماً مستقراً ذو قِيم مشتركة [9]. المثال الذي قدمه دنكن في المجموعة الجماعية هو مجموعات تنتهج الفصل بين الجنسين كمبدأ. حيث يميل المسكن (النموذج المادي) في مثل هذه المجموعة الجماعية نحو الفراغات الخاصة، ويصبح المنزل “مأوىً للنساء” (مصطلح Duncan) بينما يكون الرجال في هذه الأنواع من المجتمعات أكثر توجهاً نحو الفراغات العامة.
ما هو ذو قيمة في هذا التحليل التشريحي الثقافي، هو أنه ساعد في اكتشاف الأسباب الكامنة وراء وجود الأشكال المكانية والمادية. المعنى المرتبط بالمسكن (الشكل المادي) كما أشار دنكن، هو مأوىً ذو قيمة للنساء. يرتبط هذا المعنى في هذا النوع من المجموعات لكون النساء يقضين معظم الوقت في المسكن في تأدية مهامِهِن المنزلية كالطبخ أو تربية الأطفال، ما يجعل النساء أكثر توجهاً نحو المساحة الاجتماعية الخاصة [9]. يحاول مور أيضًا تحديد الأسباب الكامنة وراء تكوين المسكن، عندما يؤكد أن المسكن يُعَد رمزاً ثقافياً في المقام الأول من خلال علاقته بأدوار الجنسين [10]. يعد هذا النهج في التحليل أمرًا بالغ الأهمية لهذه الدراسة كونه مكننا من تحديد ما هو (:intangibleمحسوس) من العلاقات الغير صريحة في البيئة المبنية التقليدية.
ومع ذلك، فإن دراسة العناصر المعمارية من منظور التقاليد الإسلامية (الأعراف)، حيث يصف بسيم حكيم العُرف بأنه ما أُخِذ من الفقه الإسلامي، والعادات المقبولة، والتصرفات، وطريقة القيام بشيء ما ضمن نظام يَحكُم ويعتمد على معرفة وفهم المنطقة. يجادل حكيم بأن معظم المدن الإسلامية تميل إلى توليد خصائص مماثلة بسبب تبادل ممارسة العُرف، وأنه أمرٌ شائع لمعظم المجتمعات الإسلامية [11]. التي ميزت الهيكل الاجتماعي في نجد أدى لتوليد معانٍ وقوى خفية مدمجة في البيئات المبنية التقليدية في نجد. وبالتالي البيئة المبنية التقليدية في نجد هي نتيجة للقوى الخارجية مثل التضاريس والمناخ والتقنيات المستخدمة. والأهم من ذلك، القوى الداخلية كالدوافع الاجتماعية والثقافية مثل الدين والعادات وما اتفِق عليه اجتماعياً من المشتركات والقيم. في المدن العربية التقليدية، عادةً ما كانت الأشكال الحضرية العضوية غير المنتظمة يحكمها نظام داخلي تم تطويره بشكل أساسي من التفاعل بين الجوانب الاجتماعية والثقافية والدراية المحلية والتقنيات والبيئة الطبيعية.
٢. ماهية العناصر النجدية
العناصر المعمارية التقليدية في البيئة النجدية تمثل تراثاً ثقافياً غنياً يعكس تاريخ وهوية المنطقة. هذه العناصر تجمع بين الجمالية والوظيفية وتشكل جزءًا مهمًا من تصميم المباني والمساكن في منطقة النجد. ولذلك يرتكز النقاش في هذا المقال على العنصر المعماري كمنتج محلي، وكنتيجة للعملية المستمرة لصنع الفراغات الحضرية والكتل البنائية التي تشكل معًا البيئة المبنية. تم اختيار خمس قرى نجدية: الدرعية، وسُدُس، والخبراء، وأُشيقر، والرياض القديمة. ركزت خلالها الدراسة على أربعة عناصر معمارية: المدخل، والطَرمة، والفُرجات، والشُرَف؛ التي وُجدت في هذه القرى التقليدية بنجد. قامت الدراسة بقياس وتحليل العناصر المعمارية لفهم كيف تأثرت هذه العناصر بالمبادئ مثل العوامل الاجتماعية الثقافية، والظروف البيئية، وتقنيات البناء، والمعتقدات الدينية، وما إلى ذلك. وكيف أن هذه العناصر استوفت وظائفها الحضرية والمعمارية (شكل: ١).
العنصر النجدي يصبح مبررًا وفقًا لأهميته الاجتماعية والثقافية، ومدى استجابته للاحتياجات التي تفرضها البيئة الطبيعية على السكان، والوظيفة الأساسية التي أدت إلى توظيفه. ومع ذلك، فإن دراسة العناصر من منظور التقاليد (الأعراف) التي ميزت البنية الاجتماعية في نجد ساهم إلى إدراك أن المبادئ والقوى الاجتماعية لها تأثير كبير في تنظيم وتكوين الروابط بين البيئة الحضرية موقع العنصر في تلك البيئة، وشكلت الخصائص والمعاني المرتبطة بالبيئة المبنية. الهدف هو محاولة استحضار كيف يمكن أن يتغير استخدام ومعنى العنصر وفقًا لكيفية إدراك المستخدمين للعنصر، سواءً من منظور الفضاء الحضري أو المنظور المعماري للمبنى.
إن العناصر المعمارية، كما نجادل، دائمًا ما تخضع لمؤثرات أسمى داخل البيئة المبنية. مما يجعلها -ككل- تستجيب دائمًا للبيئة المحلية التي أدت إلى إنشاء خصائص البيئة المبنية وتشكيل طرزها المعمارية والتي مع مرور الزمن تساهم في تشكيل هويتها المعمارية. في هذه الحالة، كلما كان العنصر المعماري أكثر اندماجًا مع المعتقدات الدينية والعوامل الاجتماعية والثقافية للسكان، كلما أصبح العنصر ثابتًا وغير متغير. وفي الوقت نفسه، فإن العناصر التي تخدم فقط بعض الأغراض التقنية أو البيئية تكون عادةً أكثر مرونة، ما يتيح المجال لأن يقوم السكان بتعديلها مع مرور الوقت لتفي بالغرض الوظيفي من إنشائها وتطويرها في حال تطورت العادات الاجتماعية والسلوكية. وكلما أصبحت العناصر مرتبطة بمعانٍ اجتماعية اعتُبِرت فيما بعد جزءًا لا يتجزأ من البيئة المبنية.
٣. العناصر المعمارية لعمارة نجد:
٣.١ عنصر الباب
المدخل، يسمى محليًا الباب. يشغل حيز الدخول إلى المسكن أو المبنى. ويمكن لهذا العنصر أن يعبّر عن بعض أهم جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية للسكان. الباب هو العنصر الغير لفظي الذي يُقِر ويصِف الوضع الاجتماعي والاقتصادي لمالك المنزل. تتشكّل الأبواب في عدد من الأنماط والأشكال واستخدامات الزخرفة المختلفة، والتي تعمل على تصوير حالة المالك وأسلوب حياته إلى المجتمع. كذلك، فإن جودة ودقة وحِرفية الأعمال الخشبية، واستخدام الزُخرفة التي تحاكي الطبيعة والأشكال الهندسية أو النصوص الدينية، تعكِس بشكل مباشر الوضع الاجتماعي لصاحب المنزل وأولوياته. ما يعني أن الباب المزَخرف بشكل متقن عادةً ما يشير إلى مستوى أعلى من الثروة والمعيشة لمالكه. من ناحية أخرى، يشير الباب الذي يحتوي على مواد بسيطة وغير مكلِفة ولا يحتوي على زخرفة إلى انخفاض مستوى الثروة وانخفاض مستوى المعيشة لمالِكه. ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن هذا ليس هو الحال دائمًا، فقد يكون بعض الأهالي من المتدينين أثرياء، لكنهم تجنّبوا المبالغة في الزخرفة بناءً على توجُهاتِهم الدينية.
دراسة مواضع الأبواب المختلفة في القرى التقليدية، يتضح أن عنصر الباب يجسد ازدواجاً في المعنى، حيث ينشأ المعنى المزدوج الموصوف هنا من كون المدخل عنصرًا يخدم كلاً من المساحات الحضرية خارج المبنى والمساحات الخاصة داخل المبنى. نتيجة لذلك، من منظور الفضاء الحضري، يمكن أن يجسد المدخل معنى معينًا، بينما من منظور المبنى من الداخل يمكن أن يكون للمدخل معنى مختلف تمامًا. وبالتالي يتغير اعتمادًا على كيفية استخدام السكان للباب ومن يخدم، (باب الرجال/الضيوف أو باب خاص بالعائلة) [12]. تم ترميز المعاني الاجتماعية (intangible cultural meanings) المختلفة التي يُجسِدُها الباب من قِبل الِحرفيين المحليين بناءً على كيفية تقديم العنصر ماديًا داخل البيئة المبنية وفهمه من قبل السكان المحليين.
المدخل وخصائصه المرئية (الزخرفية) تحدد المنزل وقاطنيه. من الممكن القول أن هذا العنصر كان بمثابة علامة مرئية (symbolic) مهمة ساهمت في إرشاد السكان المحليين إلى “تسمية” المنزل وتحديد موقع، أي سهولة الوصول كما يعبر عنه في المنظور المعماري (Wayfinding). هذا لأنه في معظم الحالات، وجدنا القليل من العناصر المرئية الخارجية الأخرى في القرى النجدية التقليدية، ما أدى إلى بروز عنصر المدخل بزخارفه وألوانه المتعددة. في كثير من الحالات، يصف السكان ملامح المدخل لإرشاد أي شخص (خاصة الزائرين) إلى المنزل من خلال وصف خصائصه المرئية واللون والزخرفة. يعد هذا السلوك من بين العديد من أدوات الاتصال التي طورها السكان المحليون واستخدموها لقرون لتوظيف العناصر المعمارية المرئية لتوجيه أنفسهم والزائرين داخل البيئة المبنية (شكل: ٢).
عندما يكون للمبنى بابين، يكون باب الضيف عريضًا ومزخرفًا وملونًا، بينما يكون مدخل العائلة ضيقًا بزخرفة أقل. من حين لآخر لاحظنا أن الأبواب مرتدة الى الداخل في الممرات الضيقة. أيضًا، عندما يقع المبنى بالقرب من الشوارع العامة أو شبه العامة، يكون باب الضيف عادةً أكثر بروزًا بينما يكون باب العائلة مخفيًا بشكل أكبر (setback:ارتداد). في هذه الحالة، تعمل زخرفة الباب كأداة اتصال لتوجيه الضيوف إلى المدخل الذي يجب عليهم استخدامه، هذا بالإضافة إلى إبراز الحالة الاجتماعية لمالكها. تُنظَم هذه الآلية التفاعل الاجتماعي كجزء من اللوحة الأشمل للعناصر والمفاهيم الأساسية المشتركة التي يمكن العثور عليها في القرى النجدية التقليدية. لذلك، يمكننا المجادلة بأن المدخل ليس فقط عنصرًا مادياً يتيح إمكانية الوصول؛ ولكنه -جدلياً- يعمل أيضًا على تحقيق مستوى من التفاعل غير اللفظي بين أصحاب المساكن والضيوف وكذلك عامة الناس.
يمكن أن يمثل الباب كما هو موصوف، معانٍ مختلفة بناءً على مستوى الزخرفة، وقد فهم المجتمع هذه الزخرفة بشكل غير لفظي. هذا هو السبب في كون مباني الأثرياء ممن لديهم بابان أو أكثر، وجد أن باب العائلة أقل زخرفة، في حين أن باب الضيف الرئيس به زخرفة أكثر حيث من المرجح أن يراه الضيف. ما يعكس ميل الناس إلى استخدام مواردهم لتلبية احتياجاتهم، كذلك الميل لتبسيط بيئتهم المبنية ما لم تكن هناك حاجة اجتماعية أو طبيعية للقيام بخلاف ذلك.
تكمن أهمية هذه الملاحظة في كونها يمكن أن تساعد في فهم كيف طور المجتمع المحلي التقليدي آلية تمثيل مرئي باستخدام عنصر معماري بسيط -الباب- للتعبير عن المستويات المختلفة لحياتهم الاجتماعية. لم تؤثر هذه الآلية على المبادئ الأساسية للمدخل في الترتيب المكاني وموضعه ومن يخدم (الضيف أو الأسرة). هذا مهم لكونه يشير إلى أن الأنماط والأشكال والألوان المختلفة واستخدام الزخرفة لعنصر الباب تشير الى استخدام تلك التفاصيل كأدوات مادية (tangible) تستخدم لدعم التواصل غير اللفظي (intangible)، ولمساعدة السكان المحليين في التفريق والتعرف بين المنازل، وأحيانًا بين وظائف الباب في البيئة النجدية التقليدية.
٣.٢ عنصر الطَرمة
الطَرمة عنصر من الطين أو الخشب يُرى في جدران المباني الخارجية وبالقرب من باب المنزل (عادةً فوق الباب) للنساء لغرض مشاهدة من بالخارج بصمت من خلال الفتحات الصغيرة التي تظهر أسفل قاعدته. مصطلح “طَرمة” باللغة العربية تعني السيدة التي لا تستطيع الكلام، ويرتبط المصطلح بالعنصر المعماري بسبب وظيفته الأساسية وهي مراقبة الشوارع ومعرفة من يقرع الباب من داخل المنزل دون أن يراه من بالخارج. غرض الطَرمة التقليدي مشابه لـ “فتحة الباب” التي تظهر في العديد من الأبواب الحديثة.
للطَرمة نماذج وأشكال مختلفة مثل نصف دائرة، ومربع، ومثلث، ومستطيل. الاختلافات في الشكل لا تغير الغرض الرئيسي الوظيفي منها؛ ومع ذلك، أثّر موقع المبنى داخل المستوطنة وترتيب المساحات الداخلية الخاصة بالمبنى على الأشكال المختلفة للطرمة. على غرار آلية الدلالة المرئية للمدخل، شجعت رغبة السكان المحليين في التنوع لتخصيص مبانيهم على تبني أشكال مختلفة مع إنشاء بيئة مبنية متجانسة (شكل: ٣). وعادةً ما نلاحظ عنصر الطرمة في المباني ذات الطابقين. هذا لأن الغرض الوظيفي للعنصر هو المساعدة في مراقبة الشارع والباب الرئيسي من أعلى مستوى النظر. وهذا تسبب في ندرة احتواء المباني ذات الطابق الواحد على مثل هذا العنصر. تم ملاحظة بعض الأمثلة على عنصر الطرمة في المباني ذات الطابق الواحد. في هذه الحالة، عادة ما يبني السكان المحليون طابقًا ثانيًا فقط في المنطقة فوق الباب لاستيعاب عنصر الطرمة. عادةً ما يعمل الطابق الثاني الجزئي كمنطقة تخزين ويمكن استخدامه لاحقًا كغرفة خاصة عندما تتوسع الأسرة، بينما يظل باقي المبنى طابقًا واحدًا، وبالتالي احترام مبدأ عدم الإضرار بالجوار.
أثرت عملية توليد الأشكال المكانية والفيزيائية على المستوى الكلي ونظمت الاتصال والتكامل بين الكتل الحضرية الخاصة المختلفة (الحارات)، والأماكن العامة المفتوحة، والمباني العامة. أدت هذه العملية إلى نقل عناصر معمارية محددة والعمل في مناطق معينة لدعم الحياة والاحتياجات اليومية وبهذه الطريقة، يُعزِز ظهور هذا العنصر مستويات التحكم والخصوصية في البيئة المبنية باستخدامه كعنصر مادي لمراقبة من هو بالقرب من المدخل والتحكم في خصوصية الشوارع الخارجية من داخل المبنى.
توجد علاقة محتملة بالاختلافات التي تظهر في شكل العنصر بمبدأ الترتيب الهرمي للمساحات الحضرية، حيث يتحكم نوع الشارع وعرضه وموقعه في تكوين العنصر. أثرت هذه العلاقة في عملية توليد الأشكال المكانية والفيزيائية على المستوى الكلي ونظمت الاتصال والتكامل بين الكتل الحضرية الخاصة المختلفة (الحارات)، والأماكن العامة المفتوحة، والمباني العامة. أدت هذه العملية إلى نقل عناصر معمارية محددة والعمل في مناطق معينة لدعم الحياة والاحتياجات اليومية لتوضيح كيفية تحكم عرض الشارع في حجم الطرمة، حيث وجد ان مقدار امتداد العنصر من الجدار مهم حيث ان وجود عدد من الطَرمات الكبيرة في شارع ضيق قد تتعارض مع بعضها البعض وتقلل من نفاذية ضوء النهار بحجبها للسماء. لحل هذه المشكلة، تم تشكيل العنصر من قبل السكان بأشكال وأحجام مختلفة لغرض الاستفادة منه في بعض المناطق ذات الخصوصية. وبهذه الطريقة، تم تكييف العنصر عبر الزمن وحسب الظروف إلى أشكال وأحجام مختلفة مع الحفاظ على وظيفته الأساسية.
لا تقتصر فائدة الطَرمة كعنصر يساعد قاطني المنزل في مراقبة المساحات الخارجية من الداخل، بل تُستخدم أيضًا كعنصر رمزي يشير إلى مكان وجود باب المبنى من مسافة. حيث إنه بينما يساعد عنصر الطرمة سكان المنزل على مراقبة الغرباء بالقرب من أبواب المنزل (وحيث انه لا يوجد العنصر في جميع المباني التقليدية)، تم استخدام العنصر للتعرف على أبواب منزل عائلة معينة. هذا لكون بعض المناطق يوجد بها عدد قليل من المنازل المحتوية على الطرمة، مما يجعل تمييز الأبواب التي تحتوي على طرمة يسهل التعرف عليها من الأبواب الأخرى التي لا يوجد بها هذا العنصر. يميز هذا العنصر -حيثما وُجِد- منطقة الجدار الخارجي بالقرب من المدخل حيث يمكن أن تكون الطرمة كبيرة ومزخرفة. يساعد ذلك السكان المحليين على الاستفادة منه للتنقل في المساحات الحضرية والتمييز بين أبواب الجيران من خلال التعرف على التشكيلات المختلفة للعنصر. من هذا المنظور، يتم استخدام الطرمة كعنصر يزيد من الارتباط بين المساحات الحضرية ومكونات البناء في البيئات المبنية التقليدية في نجد من خلال الاستفادة المزدوجة التي تخدم كلاً من المساحات الحضرية ومساحات البناء الداخلية دون الإخلال بوظيفتها الأساسية.
٣.٢ عنصر الفُرجة
هذا العنصر عبارة عن نافذة صغيرة أو فتحة، تسمى محليًا الفُرجة (جمعها فُرجات) وأيضا يطلق علية لهج (جمعها لُّهُوج)، تأخذ شكل مثلث أو مستطيل. التسمية تأتي من معناها ووظيفتها. الفُرجة تعني “الفتحة” في اللغة العربية. لاحظنا أن العنصر في جدران المباني التقليدية يخدم لنفاذ الضوء والهواء، بينما في أبراج المراقبة (المتصلة بالأسوار) يستخدم العنصر للدفاع [13]. عادةً ما توجد الفُرجات في الأجزاء العلوية من الجدار بالقرب من السقف. يعد موقع العنصر مهمًا، حيث تم تحديد موقعه بعناية بحيث لا يكشف المساحات الداخلية للمنزل لمن بالخارج، خاصة من جهة الجدران المواجهة بالمجاورة السكنية.
في الغُرف التقليدية (على سبيل المثال: مجلس الضيوف، والمطبخ، والحمامات) يوجد صفان من الفرجات يتراوح ارتفاعهما بين 20-35 سم. يقع الصف الأول أعلى الجدار بالقرب من السقف، والصف الثاني أسفله حيث يساهم الصف السفلي في دخول الهواء البارد. والسبب في صغر حجم العنصر قد يعود لتسهيل الإغلاق بالطين أو الحجر خلال مواسم الشتاء دون التأثير على هيكل المبنى. بينما تساهم الفُرجات في جودة نفاذ الضوء والهواء (التهوية) للمبنى؛ فإن قيمتها الجمالية بارزة حيث طور السكان المحليون طرقًا مختلفة لمحاذاة وترتيب العنصر في جدرانهم (شكل: ٤).
تم تطوير عنصر الفُرجة بشكل أساسي لتدوير تدفق الهواء ونفاذ ضوء النهار للمساحات الداخلية التي ليس لها ارتباط مباشر بالفناء. حيث يقع الفناء في وسط معظم المباني التقليدية مما يعني أن الغرف الداخلية التي تحتوي على مساحات داخلية أخرى قد لا تستفيد من إمداد الفناء بالضوء والهواء. كما أنها تتطلب خصوصية عالية لكونها تنتمي إلى فئة المباني النجدية التقليدية ذات الطبيعة المتراصة (compacted)، ما أدى لتنظيم توجيه الفتحات نحو الشوارع الخارجية، حيث تكون الفتحات في بعض المناطق العميقة مقيدة للغاية وقد تتطلّب موافقة الجيران. من هذا المنظور، طوّر السكان المحليون الفُرجات لتكون عنصرًا داخليًا وخارجيًا يلبي احتياجاتهم الخاصة دون التأثير على خصوصية المباني الأخرى.
من خلال معاينة موقع وشكل العنصر، يوجد تمثيلين ماديين لكيفية ظهور الفُرجات في القرى النجدية. التمثيل الأول موجه لداخل المبنى، حيث يكون العنصر بسيطًا وأكثر وظيفية. بينما التمثيل الثاني موجه نحو الخارج، حيث يكون العنصر أكثر جمالية ورمزية مما يجعله يؤدي وظائف مختلفة. أثّر موقع المبنى وحجمه في اختيار أي من التمثيلين يتم تطبيقه. إذا كان المبنى يقع في مناطق ذات خصوصية عالية، فليس من الممكن عادةً تنفيذ العنصر بالخارج (بالجدران الخارجية). ومع ذلك، توجدبعض الحالات في المناطق ذات الخصوصية العالية التي تحتوي فيها المباني العنصر بالقرب من السقف مع وجود عدد قليل فقط من الفُرجات مع فتحات أصغر من غيرها (كتلك الموجودة في الشوارع الواسعة والمساحات المفتوحة) لإدارة الخصوصية.
في المساحات ذات العمق الأكبر، لوحظ أن الفُرجات تطوَرت داخل المباني بسبب قيود الاستخدام المقبول للجدران الخارجية. ففي المناطق ذات الخصوصية العالية، عادةً ما يكون للمبنى واجهة واحدة ويواجه هذا الجدار واجهة الجار مما يجعل فتحات الجدار غير مريحة بسبب مخاوف الخصوصية والتعارض البصري. وفي الوقت نفسه، أدت الحاجة إلى ضوء النهار والهواء النقي في هذه المناطق إلى قيام السكان المحليين بتطوير الفُرَج داخل مبانيهم لاستيعاب المساحات الداخلية التي تفتقر إلى ضوء النهار والهواء النقي والتي تكون بعيدة الاتصال بالفناء.
عادةً ما يتم تنفيذ الفُرَجات في الجدران الخارجية فوق مستوى العين ويقع العنصر في المناطق التي يكون فيها الشارع أوسع لدعم وظيفته الأساسية. كما يُلاحظ وجود العنصر بكميات كثيفة في الجدران الخارجية فقط عندما تكون المباني موجودة في شوارع واسعة وبالقرب من المساحات المفتوحة. ومع ذلك، يُلاحظ أن بعض المباني تحتوي على هذا العنصر في جدرانها الخارجية عندما تكون موجودة في مناطق مفتوحة أو بالقرب منها أو بها جداران للواجهة (على سبيل المثال، ركن المبنى). بصرف النظر عن الاستخدام الوظيفي للعنصر لنفاذية الضوء والتهوية، والتباين في كثافته وتنوع التشكيل. كما لوحظ في أجزاء مختلفة من البيئة المبنية؛ فإنه يعمل كأداة فعالة لتقليل كثافة الجدران الصلبة في الأحياء والزقاقات الضيقة. عادةً ما تظهر آلية مماثلة في عنصر المدخل، حيث تواجه الأبواب بعضها البعض، فقط عندما يكون الشارع عريضًا بدرجة كافية. هذا يعني أن السكان استخدموا نفس المفاهيم الأساسية مثل العملية التي ولّدت أو نظّمت عناصر أخرى تشترك في مبادئ مماثلة في البيئة المبنية. وتم تعديلها وتطويرها لتلائم متطلبات الترتيب المكاني والمساحة المحددة في المبنى.
تكمن أهمية عنصر الفُرَجة في قدرته على توفير المزيد من الخيارات لتدفق الهواء وضوء النهار في المباني التقليدية. طوّر سكان القرى طرقًا مختلفة للاستفادة من هذا العنصر دون حصره في طبقة اجتماعية أو منطقة معينة. هذا هو السبب في أن العنصر حافظ على دوره الوظيفي في كل من المجالات العامة والخاصة، في مواضع وتشكيلات هندسية مختلفة، مما ساهم في إضفاء الطابع الشخصي على واجهة المنزل. بهذا المعنى، تم استخدام عنصر الفُرَجة لتزيين الجدران الخارجية للمبنى باستخدام محاذاة وترتيبات وكثافات مختلفة. كلما زاد حجم المبنى، زادت قدرة جدرانه على استيعاب أنماط معقدة من فتحات الفُرجات. واعتمادًا على حجم جدار المبنى وموقعه داخل المستوطنة، تعبر الفُرَجات عن أنماط مختلفة، والتي يمكن أن تشير إلى المكانة والأهمية الاجتماعية لمالك المنزل. هذا مهم لأن الأهالي يميلون إلى تحقيق أقصى استفادة من أي عنصر، واستخدامه بطرق مختلفة لتلبية الاحتياجات الاجتماعية والثقافية المختلفة مع الحفاظ على الأغراض البيئية والتقنية الرئيسة للعنصر.
٣.٣ عنصر الشُرفة
اسم عنصر الشُرَفة (وجمعها شُرفات/شُرَف) يأتي من الكلمة العربية “شَرَف” أو “أَشرَف” والتي تعني “المراقبة” أو “النظر”. يقع العنصر في قمة المبنى أو على حافته. عنصر الشُرفة داخلي أو خارجي، وعادة ما يتم تنفيذه على جدران الأسوار وعلى واجهات المباني. تُبنى الشُرفات بالطوب اللبني وتغطى بالجص الأبيض المسمى “النوره”، للزينة ولحماية الجدران الطينية من المطر. من مفهوم مادي، للشرفات تشكيلات مختلفة مثل الخطوط المنحنية، وشكل أوراق النبات، والشكل السهمي، والخطوط المستقيمة، والأشكال الركنية المختلفة، أو الشكل الهرمي. في أي شكل يتم تصميمه، دائمًا ما يشير رأسه نحو السماء. ولهذا السبب يسميها النجديون والمدن العربية الأخرى “عرائس السماء”.
الشُرَف بشكل عام تزيد من ارتفاع الجدار لتوفير الخصوصية لسقف المنزل، وهو أمر مهم بشكل خاص في فصل الصيف، حيث يتم استخدام السطح في الصيف كمساحة للنوم ليلاً. الزيادة في الارتفاع هنا ليست بنائية فقط، بل تتمثل بين الكتلة البنائية والفراغ مما يضيف جمالية للجزء العلوي من المبنى (شكل: ٥). ويحدد أفق المباني في المستوطنة (skyline). هذا في الواقع، ساهم في تجريد العنصر من قبل السكان المحليين واستخدامه داخل المبنى بأحجام مختلفة كعنصر زخرفي داخلي، خاصةً في المجلس (ركن الضيافة).
وعلى غرار ما تم مناقشتة في العناصر السابقة، قد تؤدي بعض العناصر في إطلالتها على الفناء إلى التعرض البصري للجيران، ما يتطلب استخدام الشرفات أيضًا كعنصر ساتر لمحيط المنزل حمايةً للفناء من الاتصال البصري مع المباني المجاورة. كما أن لوجود العنصر في جدران الأسقف الفاصلة دلالة على أن هناك رغبة لدى الجيران في التفاعل الاجتماعي من على السطح. وفي حين أن الممارسة الشائعة هي بناء جدران صلبة عالية على السطح بين الجيران، ما يوفر الخصوصية لكلا المسكنين. عادةً ما يتم استخدام الشُرفات بين المنازل المجاورة عندما يعيش الأقارب بجوار بعضهم البعض. كما أنه مكّن النساء من التواصل مع جاراتهن دون الحاجة للخروج من المسكن، لأن تكامل اندماج الأسطح أتاح الوصول بين المساكن المجاورة.
الموضع الآخر الذي لوحظ فيه استخدام عنصر الشُرفات هو جدران المستوطنة (الأسوار) والأبراج الدفاعية. في حين أن الشرفات في كلا الموضعين (المباني والأسوار) تتشابه بصريًا؛ إلا أن المعنى الضمني (intangible meaning) الذي يجسد كل نوع مع الشُرفات مختلف. ففي المباني (داخل المستوطنة)، تهدف الشُرفات إلى زيادة امتداد جدران المبنى وتمكين التفاعل مع الجوار مع إضفاء اللمسة الجمالية للمبنى. وفي الأسطح كوسيلة حماية من تدفق الأمطار، فضلاً عن دورها الغير مباشر في تحديد خط السماء للمستوطنة. أما في الأسوار، يهدف العنصر إلى تعزيز الأمن من خلال تمكين العسكر من المراقبة وحماية المستوطنة أثناء التعرض للغزو، حيث أن الكتلة الصلبة تهدِف للحماية، بينما يستفاد من الجزء الفارغ بين الشرفتين في تمكين العسكر من الاشتباك مع العدو.
كلتا الوظيفتين للعنصر، تم ملاحظة أن كثافة العنصر في كلا الموضعين مختلفة. ففي اسوار القرى، يظهر العنصر كبيرًا وصلباً وأكثر امتداداً للتعبير عن الدفاع والحماية، بينما في المباني السكنية، تعتمد كثافة العنصر في أي مبنى على الحالة الاجتماعية لصاحبها وموقع المبنى. كلما زاد ثراء الأسرة، زاد انتشار الشُرفات الموجودة على السطح وحول الفناء (الرواق). وهذا هو سبب إمكانية تكرار العنصر على طول أسطح المباني أو عند أركان سطح المبنى فقط. ومع ذلك، فإن العناصر-داخل أو خارج المستوطنة- لا اختلاف جوهري بينها، عدا كون العناصر الداخلية تتميز بأنها أكثر تزيينيًا وتباعُدًا، في حين أن العناصر الخارجية تتميز بالضخامة والصلابة وأكثر تقارباً.
كما العناصر الأخرى التي تمت مناقشتها، يعد موقع المبنى مهمًا جدًا في كيفية وضع الشُرفات، فقد تأثر العنصر بموقع المبنى من حيث التشكيل المادي، حيث لوحظ أنماطًا مختلفة بناءً على موقع المبنى. عَمِد السكان إلى فِهم واحترام البيئة المحيطة، وأي عنصر يُرى في مكان معين كان انعكاسًا لفهم السكان للبيئة الثقافية. هذا ما جعل عملية صناعة الأماكن لا تميز مجالًا عن آخر (على المستويين الإقليمي/الحضري)؛ بل أن عملية صناعة المكان تتحكم في مستوى التفاعل والتكامل بين المكونات المعمارية المختلفة، وبالتالي ساهم بالحفاظ على خصائص الهوية المعمارية النجدية في مختلف القرى. هذا في الواقع استجابة للمبدأ الإسلامي “لا ضرر ولا ضرار”. يحكم المبدأ كيفية تجميع الناس لمكوناتهم الحضرية والمعمارية بطريقة تحافظ على الخصوصية مع السماح للبيئة الطبيعية وتقنيات البناء بوضع اللمسات الأخيرة على منشآتهم. بما في ذلك احترام خصوصية السكان، خصوصاً النساء اللاتي يقطن في مساكن قريبة من مبنى عام. لذا طوّر السكان المحليون عنصر الشُرفة ليكون عنصر الاستخدام المزدوج (من الداخل والخارج). حيث أُدخِل العنصر إلى داخل المساكن لتجاوز القيود نحو الخارج في المناطق ذات الكثافة والخصوصية العالية، مع إعطاء المباني القريبة من الساحات العامة والشوارع الواسعة المرونة في تشكيل العنصر داخلياً وخارجياً. حافظ هذا النوع من العمليات التوليدية على تجانس الشكل المبني في البيئة المبنية واستمرت خصائصه على مر السنين.
فهم البعد المادي والغير مادي لمثل هذه الحالات التقليدية يساهم في فهم عملية صناعة العناصر المعمارية والقواعد المؤطِرة لتوليد حلول مختلفة تتعلق بهوية المكان. بالنظر إلى العناصر المعمارية النجدية الأربعة التي تمت مناقشتها، وصَفنا كيف تم تنفيذ العناصر لا لغرض استنتاج الفوائد الوظيفية وليس عن الميزة الجمالية للعناصر، بل كيفية كان السكان يميلون أيضًا إلى الاستفادة من الرموز والمعاني الاجتماعية والثقافية التي تحملها -ضمنياً- تلك العناصر المعمارية، والتي يتشارك أهل المنطقة والسكان المحليون في فهمها بعمق التي ساهمت في تشكيل هوية نجد المعمارية.
٤. الخاتمة
كما يلاحظ العدد الضئيل من العناصر المعمارية في واجهات المباني بسبب التوجه للداخل (introverted) التي ميزت تطوّر البيئة النجدية التقليدية. أدى هذا التطور الضئيل إلى تواجد العناصر المعمارية إما داخل المباني أو بينها لخدمة ودعم وظائف متعددة، ما أدى إلى تكرار استخدام العناصر، مع تشكيلها بطرق مختلفة حسب مواقعها. أتاح هذا الخيار للأهالي إمكانية استخدام العناصر المتكررة لخدمة وظائف متعددة في مساحات ومناطق مختلف، والقدرة على استخدام العناصر المعمارية بشكل مختلف لزيادة التنوع، ولكن ضمن بيئة متجانسة (homogeneous) لضمان الحفاظ على الغرض منها.
يعتمد المظهر النهائي للعناصر وارتباطها بالمساحات والمباني الحضرية على آليات مختلفة وقرارات إضافية يتخذها السكان أثناء تفاعلهم مع عملية البناء في بيئتهم المبنية على المستوين الإقليمي والحضري. إن كيفية قيام سكان القرى التقليدية بتكوين البيئة الحضرية واختيار مواضع مبانيهم أثّرت على موقع ومظهر العناصر المعمارية، والتي أثّرت بدورها على أشكال المباني وواجهاتها وعناصرها الداخلية. أتاحت المرونة في كيفية تصميم واختيار مكان وضع العناصر وتشكيلها للسكان المحليين القدرة على تفسير العناصر بناءً على الإمكانات والظروف المحيطة. كانت عملية صنع المكان التي يولّدها السكان تُستلهَم بعمق من مبادئ أخرى؛ كالترتيب المكاني، ومتطلبات البيئة الطبيعية، والقدرة على البناء، والمواد المتاحة، وكذلك القِيم الاجتماعية والثقافية المحسوسة بقوة والتي كانت مستمَدة من المعتقدات والممارسات الدينية الراسِخة. وجدنا أن جمالية العناصر المعمارية تصبح أكثر أهمية من خلال تطوّر فهم الدلالات الرمزية المختلفة للعناصر (tangible cultural meaning). تصل هذه الدلالات إلى ذروتها عندما يجسّد الشيء المادي المعاني الاجتماعية والثقافية (intangible cultural meaning). وبشكل أكثر دقة، يمكننا قول: عندما يستجيب كلاً من المظهر المعماري للعنصر ووظيفته الرئيسة للقضايا الاجتماعية والثقافية ويتماشى مع القناعات الدينية المحسوسة وذات القِيَم العالية.
يمكن تحويل المعلومات التحليلية المقدمة في هذا المقال إلى أدوات عملية تصميم تُفيد في توليد حلول لأسلوب الحياة والاحتياجات البنائية المعاصرة. قد تتطرّق الدراسات المستقبلية أيضًا إلى عدد من العناصر المعمارية الأخرى التي تشتهر العمارة النجدية بثرائها، ودمج النتائج في أدوات أكثر شمولاً يمكن استخدامها للتأثير على البيئة المبنية المعاصرة وتمييزها. قد يعمل هذا النهج على تحسين جودة الهوية المحلية المفقودة، دون الحاجة إلى “نسخ ولصق” من الماضي. لذلك، يمكن أن يكون استيعاب الاستخدام والمعاني المضمنة (intangible meanings) للعناصر المعمارية في البيئة المبنية التقليدية ككل الخطوة الأولى في سد الفجوة، مما يوفر مسارًا واضحًا نحو الأمام في إنشاء رموز بصرية (symbolic) معاصرة تستلهم الإلهام من السياق البصري التقليدي للمحتوى المحلي.
المراجع
[1] Alnaim, M.M. (2020) The Hierarchical Order of Spaces in Arab Traditional Towns: The Case of Najd, Saudi Arabia. World Journal of Engineering and Technology, 8, 347-366
[2] Rapoport, A. (1969). House Form and Culture. Prentice Hall: New York
[3] Geertz, C. (1973). The Interpretation of Cultures. Selected Essays. Fontana Press, New York
[4] Damen, L. (1987). Culture Learning: The fifth Dimension on the Language Classroom. Reading, Ma: Addison Wesley.
[5] Rapoport, A. (1977). Human Aspect of Urban Form: Towards a Man Environment. Pergamon Press, Oxford
[6] Rapoport, A. (1987). On the Cultural Responsiveness of Architecture. Journal of Architecture Education, 41(1), pp. 10-15
[7] Rapoport, A. (2005). Culture, Architecture, Design. Lock Science Publishing Company, Inc., Chicago
[8] Hakim, B. (1997). (Ed) Paul Oliver. Symbolism and Decoration. In Encyclopedia of Vernacular Architecture of the World, Cambridge University Press, 1, pp. 556-568
[9] Duncan, J. (1981). From Container of Women to Status Symbol: The Impact of Social Structure on the Meaning of the House. In Housing and Identity: Cross-Cultural Perspective, Croom Helm, pp. 36-59
[10] Mol, H. (1978). Identity and Religion: International, Cross-Cultural Approaches. SAGE Publication Ltd., London
[11] Hakim, B. (1986). The “Urf” and its Role in Diversifying the Architecture of Traditional Islamic Cities. Journal of Architectural and Planning Research, pp. 108-126
[12] النعيم، م. (٢٠٢٣). الضيافة وتشكل المسكن التقليدي: دراسة لتكوين المدخل في العمارة النجدية. المنور، الرياض، السعودية. من خلال: https://www.almanwar.com/publications/hospitality-and-traditional-dwelling-formation
[13] الشقير، ع. (٢٠٢٣). «فلسفة المثلث» في العمارة الطينية، جريدة الرياض، السعودية. من خلال: https://www.alriyadh.com/1998681