
يرتبط أسلوب الحياة وطريقة البناء ارتباطاً لا يدع مجالاً للشك بطبائع الإنسان، وعلى الأغلب مرَّت علينا المقولة: “نحن نشكِّل المباني، وبدورها تقوم بتشكيلنا”.
إنَّ المجتمع العربي بخلفيته المسلمة عُرف بالتَّرابط والتَّكاتف، فانعكس ذلك على النَّسيج العمراني والمعماري، فكانت البيوت متقاربة والجار يتفقَّد جاره ويعاونه، ممَّا سمح بتكوين ما يُعرف بالسَّاباط، وهي السَّقيفة التي تعلو الطَّريق وتُبنى على جدارين متقابلين، فتكون سعة لأهل الدَّار ويُستفاد من ظلِّها في الصَّيف. أمَّا على مستوى البيت، فقد كان بسيطاً محكوماً بوظيفته: سَكَن، يسكن، سكوناً فهو ساكن!
مع الوقت بدأ التَّحوُّل تدريجيَّاً من الحالة الاجتماعيَّة إلى الحالة الفردانيَّة، وصار الاستقلال مطلباً، فصار لكل ابن غرفته، وبعد أن كان يجتمع أفراد البيت أغلب اليوم صار من الحسنة والفضل إن اجتمعوا على طاولة الطَّعام، حيث كان حس التَّرابط عالٍ وكانت الحياة بسيطة، ومع التَّكلُّف في البناء زاد التَّكلُّف في الحياة.
إنَّ المعيار التُّراثي في البناء هو الإنسان، الذي سخَّر العوامل من حوله لمواجهة الظُّروف ومتطلَّبات الحياة بما يلائم منطقته، ومستوحياً من بيئته، ممَّا أكسب أبنيته طابعاً فريداً، عُرف بالهُويَّة!
إنَّنا عندما نتحدَّث عن العِمارة التَّقليديَّة، ينصرف الذِّهن إلى أسلوب البناء والمواد المستعملة وحدها كالحجارة والطِّين، ولكنَّنا نقصد الوقت الذي كانت العمارة فيه مرتبطة بالحاجة والمعنى، عندما نتجت الملاقف والأفنية والرواشين … مع ذلك، فلا يمكن أن نستدل على الهُويَّة باستعمال أحد هذه العناصر فقط! فالفناء يعود إلى ما قبل الميلاد في مختلف القارَّات، ونحن في منطقة الخليج أضفناه لعناصر ثقافتنا المعماريَّة، مثله مثل النَّافذة، وهي حلول لظروف بيئيَّة جماليَّة واجتماعيَّة لا تميِّز وحدها طراز البناء، فصارت صفة مشتركة لخدمة الإنسان مع حفظ حق المكتشف أو المستخدم الأوَّل. كذلك الرواشين وملاقف الهواء وما شابههما بل وحتَّى الطِّين وحده لا يكفي في وقتنا للدلالة على حضارة أو طراز معيَّن، إذ أننا نحتاج لوجود الملامح العامَّة الشموليَّة والإحساس الذي يمليه علينا الباطن اللاشعوري: “كأنَّه هو” أو قد لا ندركه لأننا لسنا من أبناء المكان المحليين، لعلنا زائرين! ولكن في داخلنا نعلم أنَّ هناك سبب لوجود هذه التَّعابير والدلالات الحسِّيَّة والمعنويَّة، التي تنتمي إلى بيئة بعينها فينصرف الذِّهن إليها في كلِّ مرَّةٍ نراها، حتَّى على غير الأرض التي شوهدت فيها.
ظهرت الأقواس في بلاد ما بين النَّهرين، ولكن لكثرة حضورها في عمارة بلاد المسلمين والتَّطوُّرات التي أدخلت عليها، صارت لصيقة بها ومن سماتها، فأصبحت العبرة برسم القوس في سياقه لا بالقوس نفسه. ومن الأمثلة الشَّائعة فيما يُعرف بدمج التُّراث بالحداثة، استعمال المثلَّث أو الدَّائرة وما دار نحوهما، في حين أنَّها أشكال هندسيَّة لا تنتمي إلى هُويَّة دون أخرى، أخذت معناها من القصَّة التي رواها الزَّمان والمكان في سياق بنائي عمراني، فكيف يمكن أن نختزل كل هذه المعاني في حفرها على الواجهات بشكلٍ يوحي بأنَّها دخيلة!
إنَّ الاستعمال الزَّائف للعناصر المعماريَّة يخلق تشوُّهاً بصريَّاً إمَّا للتضاد الزَّمني – الحضاري – بين العناصر وإمَّا للاستعمال غير الصَّحيح! هذا إن دل على شيء فإنَّه يدل على عدم الإلمام الكافي بالهُوَّية، والذي بدوره أعطى الفرصة للثقافات الدَّخيلة بأن تتسرَّب إلينا وتؤثِّر في تشكيل مبانينا وحضارتنا، فأصبحت عمارتنا غريبة عن أرضها.
وقد شهدت هُويَّة عمارتنا تحوُّلاً في مضمونها بسبب احتكاك المجتمع بحضارات أخرى أفقدتها صفاتها الفريدة وخصائصها التَّكوينيَّة والذاتيَّة النَّابعة من ثقافة وتقاليد المجتمع. إنَّنا لا ننادي إلى العودة إلى أساليب البناء التَّقليديَّة ولا إلى إعادة إحياء الطُّرز القديمة. ولكن إلى تقليل الانبهار المبالغ فيه بالتَّقنيات الحديثة والتَّصاميم الغريبة، التي بات يسهل الوصول إليها واعتمادها كمرجع تخطيطي وتصميمي، دون مراعاة لتكييفها أو للتَّعديل عليها، من ثمَّ صارت الواجهات هي الفيصل في تحديد الطِّراز، وصار البروز (Crown Moulding) هو محدِّد العمارة الكلاسيكيَّة، كما القوس والقبَّة محدِّدا عمارة بلاد المسلمين، في حين أنَّ شكل الكتلة والفراغات الدَّاخليَّة لا توحي بذلك ولا تعكسه! كمن يؤكِّد على عبارة حتَّى لا يتوه القارئ بين السُّطور.
تتجلَّى الهُويَّة المكانيَّة من خلال روح المجتمع المنعكسة على العمارة والتُّراث، باستمراره تستمر، وبتطوُّره تتطوَّر متأثِّرة بتغيُّر احتياجاته ومتطلَّباته، أو تتفكَّك عندما يتفكَّك. لذلك السؤال الأنسب هو: ماهي هُويَّة هذا المجتمع؟ بالبحث في الهُويَّة المعماريَّة نجدها: أصيلة ولها ارتباط مكاني، مرتبطة بأعرافه، كما أنَّها تتأثَّر بالزَّمان والمكان لذلك من الممكن أن تأخذ أشكالاً عديدة، يظهر ذلك جليَّاً في عمارة بلاد المسلمين ماضياً في مختلف الأزمنة والعصور، ومع ذلك نجد فيها تقارباً بسبب وحدة الخلفيَّة الثَّقافيَّة والأسس الاجتماعيَّة.
إذا نظرنا في متحف اللوﭬر في أبو ظبي، نجد دلالة الزَّمان المعاصر حاضرة فيه، جنباً إلى جنب مع قيمة الزَّمان الماضي المتمثِّلة في القبَّة المجرَّدة، والتَّخطيط الدَّاخلي المشابه لتوزيع المساكن العربيَّة القديمة كما في المدينة المنوَّرة، فصار المتحف أنموذجاً لمدينة عربيَّة والقبَّة سماؤها مع مراعاة لعنصري الضَّوء الطَّبيعي والماء واللذان هما من سمات عمارة بلاد المسلمين كذلك، فعكس رمزيَّة المنطقة وطبيعة حركة المجتمع.
كانت العمارة في المنطقة تعتمد على المعماريين واجتهاداتهم ولذلك كان الاختلاف والتَّباين في تفسير وتحليل هذه الهُويَّة. ما نراه اليوم في مشاريع المملكة العربيَّة السُّعوديَّة يؤكِّد على دعم وتعزيز دور الإنسان، ومن بعد أنَّ كان الاهتمام فرديَّاً يكون حاضراً مرَّة وغائباً مرَّاتٍ عدَّة، صار مدعوماً بما جاء في ميثاق الملك سلمان بمحوريَّة الإنسان، جنباً إلى جنب مع الأصالة المستمدَّة من المكان والتُّراث، متجاوزةً الوقت الماضي باستمراريَّة الحاضر، بهدف تشكيل بيئة مستدامة لحياة مستقبليَّة، بإمكانيَّات مبتكرة ملائمة للعيش ومتصدِّيَّة لعشوائيَّةٍ تُنحِّي هُويَّة البناء.