كيف وصلنا إلى مرحلة أننا نناقش الهوية كمشكلة؟! كثر النقاش حول الهوية المفقودة في الوسط العمراني الخليجي لنحو نصف قرن، تزامنًا مع تصدير النفط من الخليج، وانفتاح دول الخليج من العراق إلى عُمان على طرق معيشية مختلفة، واستيراد مدن الخليج أنماطًا عمرانية تتناسب ومتطلبات الحياة الجديدة المرتبطة بالسيارة والبناء الخرساني. وفي ظل تسارع النماء والانتقال من الأقطار الريفية إلى المجتمعات المدنية بحثًا عن مقاييس جديدة للعيش وللحصول على فرص للعمل والتعلم، كان تسارع النمو -وما زال- هو التحدي الذي يواجه المدينة الخليجية.
عاصرت المدن الخليجية تدفقًا عاليًا لكمٍّ من المعلومات والتعاملات خلال فترة قصيرة لم تترك للمدينة وسكانها مجالًا كافيًا للتعامل معها، فنمت المدن حيًّا بعد حي متأثرة بالاتجاه نحو العولمة، فعلى مستوى العالم العربي تبادلت الدول علوم الهندسة والعمارة واستقطبت مهندسيها، وعلى المستوى العالمي استوردت خبرات ومدارس العمارة والعمران من شرق وغرب العالم، مثل: أساليب تطوير الأحياء الأمريكية – شبه الحضرية (Suburban) – الآتية من كاليفورنيا إلى الظهران، والتخطيط الهندسي البريطاني الذي أسس حاضرة دبي، وأسلوب العمارة اليابانية والألمانية في صياغة بعض المباني الرمزية في البحرين والكويت وجدة، التي زاحمت مناهضي الميتابوليزم والباوهاوس والبروتالزم، فلا نجد رقعة أخرى من الأرض استطاعت أن تجمع هذه المدارس في حقبة واحدة ومكان واحد، كل منها يتنافس للوصول إلى أبهى حُلة. تلك المباني الحديثة سابقت زمانها آنذاك، فبعضها وضح وظهر، وبعضها توارى خلف الأسوار ولم يظهر.
ومع تسارع هذا التمدن والانفتاح على العالم إلا أن المجتمع الخليجي لم يخسر عاداته، فهذا المجتمع من أشد المجتمعات المتمسكة بثقافاتها وطباعها، مجتمع ورث قيمه، يحيا بها ويورّثها، وإن اختلفت وسائل التعبير إلا أن ذات القيم واحدة، فالسعي لبناء الأواصر والتمسك بها، وكرم الضيافة، ما هي إلا دلالات على القيم المتوارثة التي طال الحديث عنها وقصر في تأثير الحداثة عليها.
إن أنماط الاستضافة في المسكن الخليجي لم تنقطع ولكنها في تغير مستمر، فدُور الضيافة قبل الحداثة اختلفت عنها بعد الحداثة، ففي التسعينيات تكاثرت مجالس مسكن العائلة الواحدة، وبعد الحداثة تضاءلت مساحات المساكن ومجالسها وظهرت الدواوين والاستراحات، لأن أولويات الضيافة والمعيشة في تغير مستمر، والجدير بالذكر أن المدينة تتنامى وتتعقد والعادات في محاولة مستمرة للتكيف معها.
في عهد ما قبل النهضة الحضارية تفردت المملكة العربية السعودية، وذلك لكونها صاحبة المساحة الأكبر، بتباين إعمار البناء بها واختلاف التعامل مع الظروف الطبيعية في كل منطقة عن الأخرى، كاستخدام الحجر في الجنوب، والطين في نجد، والجص في الساحل الشرقي، وقد استمدت كل منطقة عمارتها من موروث ثقافة البناء بها، أما المجتمعات المطلة على الخليج العربي، مثل البحرين وقطر والدمام والقطيف، وإن تظاهرت بالاشتراك في سماتها العمرانية، فقد اختلفت في تفاصيلها وبعض تطبيقاتها، ولم يتبق من تلك الأحياء الموروثة الكثير، حيث نقضت الأحياء الخرسانية عددًا كبير منها، أو هجرها أهلها تمامًا فجارت عليها الطبيعة وتدهورت، وأصبحت تراثًا، فتلك الهجرة خلّفت وراءها إرثًا لم يواكب أجهزة التبريد ووسائل النقل الحديثة المختصرة للوقت والمسافات، وسار المجتمع في محاولة لتكييف عاداته مع الواقع الجديد.
لقد وصلنا إلى فترة حرجة نندب ما خسرناه من الماضي، من قوة الترابط مع العائلة وأهل الحي، وقلّت المساحات الخارجية المُشبِعة لفضول الأطفال وحركتهم، ونقصت الممرات المظللة وبعدت المسافة بين البيت والسوق والبيت والمسجد، وسادت النماذج العمرانية المتشابهة على امتداد الأحياء والمدن، فبالكاد نميز مدينة عن الأخرى، وضعف التباين بينها، فطالب بعض النقاد بالعودة لما كانت عليه الأحياء والمساكن في الماضي. فهل يمكننا العودة؟! لقد وصلنا إلى هذه المرحلة لأننا وجدنا صعوبة في التعامل مع الواقع، وهذا ما يدخلنا في حلقة النوستالجيا العقيمة لأنها ذاكرة قادرة على أن تسترجع الماضي في الخيال ولا تستطيع ولادته من جديد.
ولأننا ما زلنا في محاولة لفهم الواقع الحديث الذي نعيشه ومتطلباته والامتيازات التي يحملها لنا من وسائل تجعلنا متناغمين مع الحضارة بشكل أفضل، ولأننا في سباق مع الزمن للانتقال إلى هذا الأسلوب المعيشي ولم يتسن لنا الوقت للبحث عن الحلول لتكييف عاداتنا ومتطلباتنا الحياتية الأخرى معه، ولأنه يصعب علينا صياغة هذه الوسائل بأنماط حياتيه جديدة تمكننا من التعايش معها، فقد استنكرنا الظروف الحالية وجلبنا العيش من ذاكرة الماضي، وذهبت الحلول إلى استرجاع الصور المرتبطة بالمباني القديمة المنشأة بالطين والحجر لتكون وسمًا للهوية العمرانية والبصرية لمدننا. لكن السؤال، هل الهوية العمرانية للمدينة الخليجية، أو لأي مدينة أخرى في العالم، تحكي واقع المدينة الحالية أم تراث ماضيها؟
في ظل التشبث بالماضي قد تصل المدينة الخليجية إلى مرحلة أكثر حرجًا، وهي مرحلة إنكار الذات، وذلك باستئصال ما بنته المدينة عبر العقود الأخيرة خلال مرحلة النهضة العمرانية وإبعاد ما احتضنته من تجارب وخبرات وممارسات عمرانية عن هويتها، مما يقيّد استمرارية المعرفة التراكمية والممارسة الإبداعية في صنع الهوية المحلية (صاغ مشاري النعيم مفهوم التراث الموازي كنموذج لصنع العمارة المستقبلية من خلال التجربة والممارسة بتطوير الموروث العمراني). وقد تصل المدينة إلى مرحلة إنكار الذات من خلال عدم قبول ما هو مختلف عن الهوية البصرية الموسومة من البيئة العمرانية المحلية.
وأسترجع نقاشنا في أحد لقاءات مقهى التواصل، في الشرقية، الذي نظمته هيئة فنون العمارة والتصميم، وسلطت من خلاله الضوء على ميثاق الملك سلمان العمراني، ودار الحديث عن الخبر الشمالية كساحة من تجارب العمران مع نهضة البترول التي جلبت الخبرات لتخطيط وبناء البيوت والمتاجر بها، وتطرقنا الى فتح المجال “لقبول المختلف“، ولدراسة مباني الخبر الشمالية والتعبير عنها كموروث عمراني.
ولذا أرى أن بناء كيان الهوية قد لا يكون بمجرد وضع صورة للهوية العمرانية، بل من خلال امتلاك الأدوات المناسبة لتحليل وتفكيك البيئة المحلية الحالية والتراكم الموروث وفهم ما وصلت إليه ثقافة المجتمع المحلي من تكييفٍ لأنماط المعيشة ثم وضع الحلول العمرانية لتحسينها وتطويرها المستمر، والأهم من ذلك أن نصل بسرعة إلى القناعة بأن الهوية ليست مفقودة، بل موجودة لكننا بحاجة إلى قراءتها وفهمها والتعبير عنها، عندئذٍ سنتمكن من التعامل معها بشمولية، ونضمن استمرارية الموروث التراكمي والإبداعي للثقافة المحلية، فإن أكثر ما يهدد الهوية المحلية هو انتقاصها أو إنكار وجودها.