ما هي هُويتنا المعمارية؟
سؤال شائك يحتمل الكثير من المعاني، سؤال أرّق عدة أجيال، و بالتحديد الأجيال المتعاقبة بعد اكتشاف النفط والعولمة وانصهار الثقافات، سؤال نال من الكثير منا وضجّت به عقول المعماريين الممارسين والباحثين والأكاديميين حتى أصبحوا مهووسين بشدة بموضوع الهُوية وقضوا الكثير من عمرهم بحثًا عن تعريفها وتحديدها وتبسيطها، هوس شديد خلق الكثير من الغيوم في مخيّلتهم وحجب رؤيتهم وكبّل إبداعاتهم.
و للتحرر من تزاحم الأفكار لهذا؛ يجب علينا أخذ خطوة الى الوراء، خطوة كفيلة بإزاحة بعض الغيوم وفك القيود التي سجنّا أنفسنا بها بإرادتنا، خطوة تعطينا نظرة أشمل وأفق أوسع.
يقول عالم الاجتماع العمراني روبرت بارك:
“إن العمران ( المدينة + السكن ) هو أكثر محاولات الإنسان اتسّاقًا وبشكل أعمّ أكثرها نجاحًا لإعادة تشكيل العالم الذي يعيش فيه بما يتفق بدرجات أكبر مع رغبات قلبه، لكن إذا كان العمران هو العالم الذي خلقه الإنسان، فهو بالتالي العالم الذي يتعين عليه العيش فيه، فالإنسان بشكل غير مباشر، ودون إدراك واضح لطبيعة مهمته، قد أعاد أثناء خلقه للعمران تشكيل نفسه.”
إذاً العمران في المقام الأول هو من صنع الإنسان وهو انعكاس له؛ حيث يضع فيه رغباته المادية الملموسة واحتياجاته الروحانية غير الملموسة، و لذلك فإن الهوية العمرانية هي بالأحرى هوية الإنسان الذي شكلها.
وبما أن الهوية العمرانية أصبحت اليوم تُقلّد شكلياً وفي المظاهر فقط وتوضع في أحياز فاقدة للجوهر لا تتعدى حدود البصر دون فهم واضح للمبادئ التي شكّلت هذه الهوية أساساً، فهل هوية الإنسان هي مظهره وشكله الخارجي؟ لا أعتقد.
فالإنسان احتياجات مادية ورغبات روحانية، الإنسان ثقافة وعادات ومبادئ وقناعات، الإنسان تجارب وخبرات ماضي، الإنسان تطلّعات حاضر وآمال للمستقبل، الإنسان أشياء أخرى كثيرة. فلماذا نختزل كل ذلك في المظهر الخارجي؟ و إذا كان قد انطوى في الإنسان العالم الأكبر؛ فلماذا نتعامل معه كجرم صغير؟
أما بخصوص الشطر الثاني من كلام عالم الاجتماع العمراني روبرت؛ فمنه يتضح أن علاقة الإنسان بالعمران هي علاقة ثنائية عميقة معقدة؛ يتشكّل العمران ويتأثر من الإنسان في بدايته ثم يعود و يمتد ليؤثر بالإنسان في جميع جوانب حياته، فالعمران هو الذي يشكل عادات الانسان الصحية والاجتماعية والنفسية والاخلاقية وحتى الدينية.
و في عودتنا إلى الوراء؛ لنعد إلى الوقت الذي كانت به الهوية العمرانية واضحة ناجحة، حيث كان أحد أهم أسباب نجاحها هي هذه العلاقة بين الإنسان و العمران، لأنها كانت واضحة سليمة و تسير بشكلها و نمطها الصحيحين حيث أتى الإنسان (المجتمع المحلي) أولاً و منه تشكّل العمران، لذلك تجد العمران يعكس و يبرز هوية المجتمع. أما اليوم؛ فالهوية مضطربة متناقضة لأن سير عملية تشكيل العمران اختلف كثيراً. في حالة المدن مثلاً، أصبحت المدن تُصمّم و تُبنى مسبقاً و يأتي بها الإنسان بشكل ثانوي حتى يتأقلم عليها جَبْرًا، و مما زاد الهوية اضطراباً، أن هذه التصاميم مستوردة و النماذج ليست محلية و لا يشارك المجتمع المحلي في عملية تصميمها ولا يؤخذ برأيه في تخطيطها لذلك تجد هذه المدن سيئة ولا توفّر احتياجات أهلها.
و يمكن قياس سوء تصميم المنازل على سوء تصميم المدن، لأنهما ليسا ببعيدين عن بعضهما و يتشابهان تماماً، فالمدينة سكن على نطاق أكبر، و المنزل سكن على نطاق أصغر.
يمكننا التعلّم من جذورنا و تجربتنا الناجحة سابقّا أن نجاح تحديث وتحديد و تعريف الهُوية العمرانية اليوم يمر عبر إشراك و مساهمة أكبر قدر ممكن من المجتمع، لا عبر جهود معماري أو باحث أكاديمي فقط ، فمن حق المجتمع بمختلف طبقاته أن يُشارك في صناعة الهوية الثقافية لبلده والتي تُعكس بدورها من الهوية العمرانية. حينها ستكون الهوية ناجحة ثرية وقابلة للتطبيق، لأنها جاءت بمساهمة المجتمع، ووضع بها جميع ما يُطالب به، كما أنها أتت برضاه، وانصهر تحتها في كيان ولغة واحدة ترجمها المعماري، فمهما اختلف أفراد المجتمع ستجد احتياجاتهم متشابهة لحد كبير، فنحن إما اخوان في الدين أو نظراء في الخلق.