من أبرز المواضيع النشطة في الساحة العمرانية المحلية – والعالمية على حد سواء – هو موضوع الهوية العمرانية، وغربة هذه الهوية أمام العولمة الغربية باعتبار أن مشروع العولمة بشكل كبير قائم على الهوية الغربية ومخرجاتها عالمياً، وقد أنتج هذا الحراك تفرعات ثنائية بارزة في الأدبيات العمرانية تارة تجدها تحت مسمى العالم الأول والثالث، العالم المتطور والعالم في طور النمو، أو عالم الشمال وعالم الجنوب. لعل المسمى الأول والثاني واجه انتقادات كثيرة، وبقي الثالث كمصطلح هو الأكثر انتشاراً وقبولاً. فالجدلية الرئيسية التي تقع في قلب مواضيع هذا التفرع منصبة بشكل كبير على موضوع الهوية، وتحديداً تقهقر هويات عالم الجنوب (البلدان غير العربية) أمام هويات عالم الشمال (البلاد الغربية).
ومن خلال متابعتي للساحة البحثية وجدت أن في كل قُطرعالمي هناك مقاومة ثقافية ناضجة لإعادة وهج الهويات المحلية، وأطلق على هذا المشروع مشروع إنهاء الوصاية المعرفية (Decolonization of Knowledge)، وينتشر هذا الحراك على نطاق واسع في أمريكا الجنوبية، والدول الإفريقية، وكثير من الدول الآسيوية (Connell 2014)، ولعل التسمية فيها نوع من المبالغة إلا أن إنهاء الوصاية المعرفية أخذت طريقها ليس إلى تخصصات العمران فحسب بل إلى أغلب تخصصات العلوم الإنسانية.
والهدف من هذا المشروع هو تحدي الامتياز التاريخي للبلاد الغربية في احتكارها للمعرفة. ففي أغلب العلوم تظل المراجع الغربية هي السائدة وبالتالي طرق المعرفة ومنهجياتها وتحكيم هذه المنهجيات – وتحديد ما هو مقبول وما هو غير مقبول – ما يزال امتيازاً للمراكز البحثية والجامعات الغربية. قد يحجب هذا الأمر طرق المعرفة والتفكير الأخرى التي قد لا تصب في مصلحة هذه البلاد الغربية، بالذات الاقتصادية منها، ولعل من ضمن ما حجب بسبب هذه المعادلة غير المتساوية هو موضوع الهويات العمرانية.
في الستينيات والسبعينيات الميلادية وكأغلب مدن عالم الجنوب، قامت المدن السعودية بالاعتماد على المكاتب الأجنبية كمستشارين لوضع اللبنة الأولى للتنمية العمرانية. على سبيل المثال؛ اعتمدت مدينة جدة في عام 1966 على مكتب غربي بتوصية من الأمم المتحدة وهو مكتب Wilson-Murrow والذي اعتمده أمين جدة في تلك الفترة وهيب زقر (Abu-Sulaiman 1996). كانت مهمة المكتب تقديم دراسة للوضع الراهن في المدينة والخروج بتوصيات لاعتمادها في المرحلة المستقبلية لتطوير جدة. ورغم أن الدراسة كانت شاملة لعمليات اقتصادية وبيئية ومرورية لم تكتف بالجانب المبني إلا أنها أغفلت المعرفة المحلية في تطوير توصياتها والحال ينطبق كذلك على مخطط جدة عام 1973 والذي تم تطويره من قبل المخطط البريطاني الشهير Robert Mathew والذي قام بالتركيز على الجوانب الفنية وتطوير البيئة المبنية بصورة أساسية وأغفل كسابقه المعرفة المحلية في تطوير التشريعات العمرانية لتلك الفترة ومخطط جدة لعام 1978 الذي طوره Sert Jackson ليس ببعيد عمن سبقه وبقيت المعرفة المحلية والتي تشكل أساس الهوية العمرانية مهمشة. هذا الحال لا ينطبق على جدة فقط، بل على الرياض (Doxiadis) والدمام (SOCAL) والتي كان للمكاتب الغربية النصيب الأكبر في تطوير أساسها العمراني. جميع هذه المكاتب اعتمدت في عملية التطوير على نسخ الممارسات الناجحة في السياقات التي أتت منها، وبالتالي اعتمدت بشكل كبير على “الحلول المعلبة”. الحل المعلب في التخطيط العمراني هو حل عابر للقارات (Universal) يعتقد مطوروه أنه صالح لكل زمان ومكان. لا أنكر أن هذه الحلول قد تعمل أحياناً على الأرض بشكل صحيح، ولكن استقدامها يحتاج إلى فهم عميق للسياق المحلي، ولعل أبرز عناصر الفهم العميق للسياق المحلي هو الوعي بالهوية المحلية وأبعادها وتأثيرها، ولهذا الأمر – ادّعي – أن المكاتب الغربية في الستينات والسبعينيات الميلادية لم تأخذه بعين الاعتبار بشكل جيد.
ولكن أي تغيير يحدث في المدن بصورة عامة يجب أن يتم دراسته من منظورين حسب علماء الاجتماع: الفردية (Agency) و البنيوية (Structure)، عندما نفعل ذلك فسنرى صورة مختلفة عما هو سائد في الأدبيات، والتي ترى المدينة السعودية نتاج عمليات العولمة الغربية. وقبل أن نستخدم المنظورين في فهم التغيير الذي حدث بمدننا السعودية، فإنه من المفيد شرحهما ليتسنى للقارئ إدراك ما تبقى من المقالة البنيوية في أدبيات علم الاجتماع والتي تعني أن المؤسسات الحكومية وما تحمله من أنظمة وقوانين وتشريعات هي ما ينتج “الواقع” من حولنا وبالتالي الأفراد ما هم إلا نتاج لهذه القوانين والتشريعات. أي أن الأفراد والمجموعات البشرية تعيش داخل هذه البنيوية التي تحيطها، وتغير سلوكها بناءً على القِيم الجمعية الرسمية التي اعتمدتها المؤسسات. وبالتالي حتى نفهم التغير في المجتمع يجب أن نفهم التغير في البنيوية التي تقوم عليها المؤسسات التي تدير المشهد بصفة رسمية، وهذا التوجه نظّر له عالم الاجتماع الفرنسي الكبير إميل دوركايم أحد مؤسسي علم الاجتماع الحديث (Tan 2011)، حيث يعتقد بأن التغيير على الفرد الذي يصبح بفعل “خارجي” لم يكن في حسبان الأفراد. وفي المقابل، ماكس فيبر – عالم الاجتماع الألماني الشهير – نظّر لفكرة الفردية وعارض إميل في توجهه. وحسب ماكس، فان الأفراد يتصرفون بناءً على الاحتياج والحسابات الشخصية (individual judgment) ورغم أنهم أفراد داخل نطاق البنيوية يتأثرون بما داخل هذا النطاق من تشريعات وأنظمة إلا أنهم ليسوا بالضرورة كيانات تتأثر ولا تؤثر، فقد يستحدث الأفراد “مناطق رمادية” (Yiftachel 2009) وهي المناطق التي لا يوجد لها تنظيم، ويبدأون في تكوين التنظيم الجمعي الذي يتوافق عليه الجميع. بل حتى وإن كان هناك تنظيم أو تشريع فإن الفرد مثقلاً بثقافته أو حالته الاقتصادية أو الاجتماعية، قد يبتكر طرقاً أخرى لواقعه وقد لا يلتزم بما يحيطه من قيود تفرضها عليه البنيوية.
وباختصار، يمكن القول إن البنيوية هي التغييرات التي تحدث من الأعلى بينما الفردية هي التغييرات التي تحدث من الأسفل. ولعل علماء الاجتماع اللاحقين مثل أنثوني جيدينز وبيير بورديو قد سلكوا مسلك الوسطية و أوضحوا أهمية دمج الفكرتين، حيث أن البنيوية تتأثر بسلوك الأفراد وليست ثابتة، والفردية كذلك تتأثر بهيكلية البنيوية وبالتالي فالعلاقة تبادلية وديناميكية (Giddens 1979). بعد هذه الخلفية التنظيرية المبسطة، يمكننا أن نرى صورة مختلفة لهوية المدن السعودية باستخدام فكرتي الفردية والبنيوية.
كما أسلفنا من قبل، لو نظرنا بعين البنيوية فإن المدينة السعودية تأثرت بالتحضر الذي هو منتج غربي بامتياز، وباعتبار أن المكاتب الأجنبية كان لها النصيب الأكبر في وضع اللبنة الأولى في وضع التشريعات العمرانية ولم تكن الهوية ذات أولوية، وفي ظل تهميش الممارسات المحلية واستبدالها بممارسات عالمية، هذا الأمر جعلنا نرى أن مدننا تحتاج إلى سعودة في طريقة إنشائها تتناسب مع هويتنا وتراثنا وسياقنا المحلي. ولكن لو نظرنا لواقع مدننا بعين ماكس فيبر والتي تفسر الوقائع بعين الفردية فربما قد نرى أن الهوية كانت حاضرة في مشروع التحضر في نواحي عمرانية كثيرة، فأغلب أواسط مدننا السعودية في الستينيات الميلادية قد نشأت بطريقة تقليدية تعتمد على إحياء الأرض، والتي كان يمارسها الأفراد بناءً على أساس إسلامي نابع من الهوية المحلية. وهذه الممارسة أخذت طريقها ٣ البنيوية، وأنتجت نظام توزيع الأراضي البور في عام 1968. م لم يكن هذا النظام “حلاً معلباً” آتٍ من المكاتب الغربية، بل ممارسة من صميم الهوية السعودية. أيضاً في نفس العقد، عندما تم اعتماد الأسمنت كوسيلة بناء رسمية، قام أهالي المدن السعودية بالخلط بين الأسمنت والطين في بناء منازلهم، ولعل هذا الأمر واضح في المناطق المحاذية لأواسط المدن، والتي بُنيت في السبيعينات الميلادية، وقد يصنف أغلبها اليوم كمناطق عشوائية. وهذا الخلط بين مادتين مختلفتين يعتبر شاهد على أن المدينة السعودية كان للأفراد فيها كلمتهم في تكوين المدينة وإنشائها بناءً على ممارساتهم المحلية التقليدية التي ابتكروها. ايضاً وجود “المركاز” و”الدكة” والتعريف المكاني الذي يطلق عليه بالـ “الحارة” جميعها ظواهر عمرانية لم تأت عن طريق البنيوية بل كانت الفردية هي من جلبها لأنها جُلبت بناءً على ما كان يدركه الأفراد آنذاك كثقافة – أو ما يطلق عليه بورديو “السجية” (habitus) إن صح اجتهادي لترجمتها للعربية. أخذت الثقافة شكلاً في البيئة المبنية لم يكن موجوداً في التشريعات العمرانية آنذاك (Bourdieu 2017). وعلى نفس المنوال يمكن قول ذات الأمر مع ظواهر وشواهد عمرانية مثل ماء السبيل و”المجلس والمقلط” و”السور المرتفع” والتي هي شاهد على أن المدينة السعودية هي نتاج تفاعل بين البنيوية المفعمة بالتجارب العالمية والفردية الزاخرة بالهوية المحلية.
وفي ضوء خطة 2030 للمملكة العربية السعودية، والتي تلقى دعماً كبيراً من سمو سيدي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان حفظه الله فإن المدينة السعودية تشهد تحولاً كبيراً في هذا الشأن ملخصه إن البنيوية أصبحت تنادي بالهوية السعودية كأساس في تنمية المدن، فمشروع المربع في الرياض المعلن عنه مؤخراً تم استلهامه من الطابع النجدي التراثي والموجهات التصميمية العمرانية للمناطق وتم وضع شرط في تنفيذها بأن تكون مستوحاة من التراث المحلي الإقليمي لكل منطقة، وقامت وزارة الشؤون البلدية والقروية والإسكان بتعزيز المشاركة المجتمعية، وهذه المشاركة بلا شك ستترجم الممارسات المحلية إلى تشريعات عمرانية، ناهيك عن الكم الكبير من الخبرات المحلية في المجالات العمرانية التي تم التعاقد معها وتوظيفها في الأمانات والبلديات والهيئات التطويرية، والذين بدورهم سيشاركون إلى جانب المكاتب العالمية في تطوير النموذج التنموي العصري لمدننا. وهؤلاء الخبراء المحليين – بلا شك – سيغذون انتقال المعرفة العالمية لمدننا بصبغة محلية فيها الكثير من مفردات الهوية المحلية. بهكذا تحول مستقبلي فإن المدينة السعودية ستكون مدينة ذات هوية محلية مميزة من ناحية البنيوية وكذلك الفردية.
المصادر
- Abu-Sulaiman, Abdulaziz Mahdi. 1996. “Learning to Plan: Jeddah (1959-87).” University of Pennsylvannia.
- Bourdieu, P. 2017. “Habitus.” Habitus: A Sense of Place. https://www.taylorfrancis.com/chapters/edit/10.4324/9781315253701-7/habitus-pierre-bourdieu.
- Connell, Raewyn. 2014. “Using Southern Theory: Decolonizing Social Thought in Theory, Research and Application.” Planning Theory 13 (2): 210–23.
- Giddens, Anthony. 1979. “Agency, Structure.” In Central Problems in Social Theory: Action, Structure and Contradiction in Social Analysis, edited by Anthony Giddens, 49–95. London: Macmillan Education UK.
- Tan, Sherman. 2011. “Understanding the ‘structure’and the ‘agency’debate in the Social Sciences.” Moderator’s Note 37. https://citeseerx.ist.psu.edu/document?repid=rep1&type=pdf&doi=4ecfa927601fff6ae54cd6cf38246726eddd24aa#page=39.
- Yiftachel, Oren. 2009. “Theoretical Notes On `Gray Cities’: The Coming of Urban Apartheid?” Planning Theory 8 (1): 88–100.