تصدرت الفلسفات الصديقة للبيئة المشهد الحضري في تصميم وتطوير المدن منذ أواخر السبعينات. ونظرا لكونها الأبسط والأقرب لطبيعة الإنسان وحد إدراكه الفطري بين نظرائها من الفلسفات، ولكونها أكثر مراعاة للتغير المناخي وحماية للبيئة وكوكب الأرض انتخبها معظم المختصين والمنظرين عالميا لحد أسمى يكاد يصل حد التقديس دون الحاجة للخوض في تجربة عملية، والملاحظة الطويلة على أرض الواقع.
نعايش اليوم الاستدامة كمصطلح مهيمن يقود توجهات التطور بشتى أنواعه وأحجامه من تصميم المدينة وحتى تصميم مفاصل قطع الأثاث، حتى صعبت مناقشتها وانتقادها موضوعيا ولاسيما في الممارسات المعمارية والعمرانية. فتمحورت تباعا للممارسة العمرانية في المملكة العربية السعودية حول مصطلح أنسنة المدن.
وقد تهكم على المصطلح عدد لا يستهان به من المتخصصين بقولهم: (وهل كانت المدن مصممة لغير الإنسان في السابق). وربما كان في نقدهم أيضا خروج عن سياقات مصطلح أنسنة المدن، إلا أننا نشهد اليوم واقعا أشد بعداً، ومصطلحات أشد غرابة وإنكارا مثل أنسنة المساجد التي استحدثها الناس واستجادوها حتى أرغم المختص على تبنيها هروبا من النخبوية في الطرح إلى رحاب الشعبوية الملهمة.
لا شك إن توجه أنسنة المدن محمود في ظاهره (نظرا لسنوات عديدة من أولوية سائقي المركبات وبنيتها التحتية) إلا أن التحدي يكمن في التفاصيل، فتتجسد أهم المشاريع الناجحة في هذا المجال ضمن رؤية المملكة ٢٠٣٠ في تطوير جودة الحياة ، وتعزيز الوصولية في مشروع المسار الرياضي في الرياض كمثال عملي ناجح. ويعزى السبب إلى كون المشروع أشبع دراسة وتحليلا في ظل تحديات وظروف مناخية واقتصادية معلومة، وليس المعرض هنا في الحديث عن مدى جدوى هذا المشروع الجاد وإنما عن صداه الواسع في التأثير على ساحة التطوير العمراني في المملكة، فيلاحظ بسهوله عدة اجتهادات تتسم بنفس السمات لمشروع المسار الرياضي مع مستوى أقل من الجدية في الطرح والتنفيذ الذي لم تشهد النجاح المرجو لها.
ابتعد هنا عن المقارنة بين المشاريع لاستحالة إيجاد مشاريع متكافئة الظروف، واقترب من محاولة استيعاب هذه المسارات في جوهرها. حيث يعد مسار الدراجة أحد المستجدات من الناحية التصميمية على المجتمع السعودي رغم قدمه وكثرة استخدامه، وتخضع مثل هذه المشاريع إلى معضلة أسبقية البيضة أم الدجاجة. في حين نرى مسارات دراجات ناجحة في أحيائنا دون قوانين تنظيمية تكفل حقوق الدراج وقائدي المركبات وغيرها مما لا يتم تبنيها، وليس المعرض هنا في زيادة غرامات المرور باسم التنظيم وإن كان هذا قدرا محتوما مؤجلا إلى حين زيادة عدد المستخدمين، فيكون في هذه الحالة سلوك الدراج كنموذج غير منظم خارجا عن إطاره في حي يتبنى فكر أنسنة المدن شعارا له، وقد لا يكفل الحد الأدنى من تقليل المخاطر على الدراجين والمستخدمين خاصة للمستخدمين ممن هم دون السن المسموح لهم بقيادة السيارة وهم الشريحة الأكبر من المستخدمين.
وفي نموذج آخر أكثر تحكما وأقل مرونة يعتمد على القوانين التنظيمية من رخصة لقائدي الدراجات ومخالفات متعلقة بجميع ممارسات الدراجين. فتصبح زيادة القوانين شرطا لشرعية مسار الدراجة من جهة، وعاملا لتقليل عدد المستخدمين – ممن يواجهون صعوبة في التجاوب مع هذه المستجدات- من جهة أخرى، فأصبحت المبالغة في القوانين وتطبيقها شرطا لإفشال المشروع بعد أن كانت حلا لعدم التنظيم (لا إفراط ولا تفريط) لاسيما إن كانت هذه الثقافة لا تلائم الشريحة السكانية للمنطقة المقترح تنفيذ المشروع فيها. ومن هنا أتت ضرورة “المشاركة المجتمعية” كمصطلح هام آخر يعنى بإشراك المجتمع في اتخاذ القرار وإضفاء طبقة ذات طابع إنساني أيضا.
وكما هو الحال في تطبيق مصطلح الأنسنة يكاد يحيد مصطلح المشاركة المجتمعية عن طريقه قبل أن يبلغ أشده لاسيما في مبادرات مسارات الدراجات. حيث يجمع المعنيون بهذا التوجه السامي في ورش عمل أشبه بالتوجيهية للمشاركين لاتخاذ قرار بناء على اختيار من متعدد. متعددات تم اختيارها بناء على اجتهادات لا غبار عليها من عدة متخصصين في مجالات تصميمية قد لا يتشاركون المبادئ التصميمية نفسها من مهندسين معماريين ومدنيين ومخططين ومنسقي حدائق وحتى المصممين الداخليين. وبالفعل يتم إشراك المشاركين في الورش في مقترح على إحدى الممكنات في الملكيات الحكومية غير المستغلة حتى يكاد يكون كماليا (نظرا لعدم وجود الحاجة الحقيقية والممارسة للدراجة كخيار للوصول بشكل جدي) غير نابع من حاجة المستخدم الحقيقي للدراجة اليومي في الحي، وانما كرياضة دراجين يمارسون قيادة الدراجات في أوقات فراغهم كنوع من التسلية الصحية ربما كنشاط أسبوعي. وبالمقابل يتم اغفال التجارب الحديثة لمثل هذه المشاريع وفي غياب تام للمحاسبة حال فشل مثل هذا المسار وبعد شهر أو أقل قد يضعف الطالب والمطلوب.
نبعت المشكلة هنا من الاجتهاد في وقت ضيق دون إمكانية حقيقية للدراسة والتحليل بالترتيب المفترض حيث تم اختيار الموقع حسب الإمكانية ثم تم اختيار الأدوات لتطويره رغم عدم توافر الممارسة لسلوك الدراجين فيها. وهنا يكون تناف جلي مع تعاليم رواد العمران ومدرسة أنسنة المدن مثل جين جيكوبس ولويس ممفورد ويان جيل وآخرين. فنلاحظ هنا تنصل التطبيق من النظرية الأم ثم إتباعه بمشاركة مجتمعية تضفي نوع من الشرعية لمثل هذه القرارات وتوحي بتغليب الجانب الترفيهي وبعدم إهمال الجانب الاجتماعي وحتى الثقافي للمكان.
ولربما كان هناك دور لا يستهان به في وصف أغلب كتب العمران لإشكالية عدم استهجان المدن في الخليج ككل للدراجة الهوائية كموضوع عادات وتقاليد ثقافي بحت. حيث تصف الإشكالية وكأنها نظرة ثقافية دونية لمستخدمي الدراجات من السكان أنفسهم، حيث أنه لا يتوقع مثلا من رب أسرة أن يذهب إلى المسجد على الدراجة ، وباعتقادي أن هذا الطرح هو إسقاط على الواقع دون تمحيص، إلا أنه هو المستساغ في أغلب المشاريع الكبرى وخاصة المشاريع التي تحوي عددا كبيرا من المهندسين والمصممين والاستشاريين العالميين غير القادرين أحيانا على فهم تعقيدات ثقافة المكان، وبأن تغيير النظرة الثقافية عن طريق التوعية والتسويق في وسائل التواصل الاجتماعي هو الحل الملائم ، وبذلك وفي اعتقادهم تتحول النظرة من دونية إلى نظرة احترام وتقدير لمن يقوم بهذه الممارسة ، والواقع هنا يكذب هذا الطرح حيث أن الدراجة ما زالت هنا خيار أشبه بالترفيهي لا ضرورة يومية ، ولا يمكن تطويع الناس لرؤيته بشكل مختلف. حيث كان تبني الممارسات حيث وجدت والبناء عليها أجدر من فرض خطط لا تتلاءم مع الاحتياج الحقيقي طمعا في تغييرها، وتغيير نمط حياتهم لما يوصف بأنه أكثر جودة وصحية. ففي حال لم تكن درجة الحرارة معارضة وتوفرت شبكة مناسبة آمنة للحركة بقوانين تكفل التنظيم والأمان للكبير والصغير حتى وإن لم توجد مسارات الدراجات لم يمانع المستخدم المشي او التنقل بالدراجة خاصة في ظل الارتفاع المستمر لتكاليف امتلاك مركبة واستخدامها. ومن هنا كانت الإشكالية في الضرورة والجدوى الزمنية (المادية)أولا والصحية ثانيا والمعنوية ثالثا فضلا على أن تختزل في إن الإشكالية هي نظرة المجتمع الذي يجب إعادة صبه في قوالب تتبنى فكر الدراجة الصديق للبيئة.
ومن هنا أتت أهمية دراسة كل حالة مسار على حدة تماما كما تتم دراسة الوصولية ومسارات العبور خاصة بكل منطقة وظروفها دون التسرع في قرارات تنفيذية طارئة ترفع من تقارير مستويات الأداء لجميع الأطراف المتعلقة قبيل نهاية العام، وقد تنسى أو تترك فيما بعد يتيمة لثبات عدم جدواها في دراسة تحليلية واضحة المعالم، لما في ذلك من تجاهل لجميع مفاهيم الاستدامة.
الجدير بالذكر أن معظم ممارسات الاستدامة العمرانية ما زالت غير اختصاصية، بل ويظن عدم المختص من معماريين وغيرهم ان قراءتها يكفي ليكون مختصًا في التنظير لها وتنفيذها، ورغم أنها مدارس عمرانية المنشأ من حيث الأصل إلا أن الملاحظ هو تغييب لصوت العمرانيين في العملية خوفا من التغيير أو شملهم تحت مظلة معمارية تنحى نحو السائد والمتعارف عليه. ويتجلى دور العمراني في الجمع بين جميع جهات الاختصاص كمتخصص أكفأ لملاحظة السلوكيات المتعلقة ومن ثم رصد أنماطها وإعادة صياغتها بشكل مؤسسي جاد في تصميم مستدام يشمل ممارسة المشاركة المجتمعية بعد ذلك ويتلاءم مع المستخدم بشكل أدق. والفرق هنا شاسع بين ما يجب من معاملة المدينة كجسد ذو علة تحتاج لعملية جراحية شديدة الدقة مدروسة النتائج، ومقارنة بما هو كائن ومحاكاة لما سيكون، وبين ما هو حاصل من اجتهاد في طب شعبي بنية طيبة.
أغلب الظن أن الحوار بين المتخصصين او إن صح التعبير النخبويين من برج عاجي أعلى الجبل فترات وسنين دون جدوى، حيث استبدل أغلب الناس اللجوء إلى أعلى الجبل للحصول على أجوبة صعبة التطبيق بالرضا بتكوين ما يرونه مناسبا فيما يستحدثونه على شاطئ المدينة بقياس التجربة والخطأ. إلا أن هذه الفجوة تولد صراعات تصميمية حديثة لم تكن جزءا من الإشكالية في السابق حين يكتفي كل حزب بما لديه من مصطلحات مجوفة. وبالفعل كانت الإشكالية الثقافية معضلة يصعب تناولها من أحد الفريقين دون دراية ومقارنة وحوار يشدد على أهمية تخصيص بيئة حاضنة تحتمل تلاقح العقول الإبداعية والآراء النقدية المعمارية والعمرانية. وفي ذلك محاولة لحماية المشهد الحضري من عواقب تفرد الآراء الوخيم، وتمثيل فعلي لمبادئ وقيم العمارة والعمران السعودي التي نجرؤ أن نطمح في تصديرها يوما ما كحالة دراسية نموذجية يعم نفعها القاصي والداني.
يبدو أن هناك حاجة إلى مزيد من البحث لفهم العلاقة بين ركوب الدراجات ونوعية الحياة في المدن بشكل أفضل. لكن تحسين البنية التحتية الآمنة لركوب الدراجات، واعتبار ركوب الدراجات جزءا من نظام النقل يمكن أن يكون واحدا من العديد من الأدوات المهمة في الجهود الأوسع نطاقا للحد من انبعاثات الكربون في المدن، وتحسين جودة الهواء، وجعل المواطنين أكثر نشاطا وصحة، وتحسين نوعية حياتهم. ولهذا السبب، ينبغي للمدن أن تنظر في ركوب الدراجات ليس بمفردها، بل كجزء من منظومة أوسع لتحسين الصحة العامة ورفاهية سكانها.